فصل: قال ابن الجوزي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكأن الحق سبحانه يقول لنا: أنتم أحرار، فأنا مستعد للجزاء على أيّ حال تسعكم جنتي، إنْ آمنتم جميعًا، ولا تضيق بكم النار إنْ كفرتم جميعًا.
ونقول لمن تمرَّد على الله: ينبغي أن تكون منطقيًا مع نفسك، وأن تظل متمردًا على الله في كل شيء ما دمت قد ألفتَ التمرد، فإنْ جاءك المرض تتأبى عليه، وإنْ جاءك الموت ترفضه، فإذا لم تستطع فأنت مقهور لله خاضع له {كُلٌّ لَّهُ قَانتُونَ} [الروم: 26] خاضعون، إما عن اختيار، وإما عن قهر في كل أمر لا اختيار لك فيه، إذن: فأنت قانت رغمًا عنك، وقنوتك مع تمرُّدك أبلغ في الشهادة لله.
إذن: فالمؤمن خاضع لله في منطقة الاختيار، وهي الإيمان والتكاليف، وخاضع لله فيما لا اختيار له فيه كالقضاء والأمور الاضطرارية، فهو يستقبلها عن رضا، أما الكافر فهو خاضع لله لا يستطيع الفكاك عن قضائه ولا عن قدره رغمًا عنه في الأمور التي لا اختيارَ له فيها، لكنه يستقبلها بالسُّخْط وعدم الرضا، فهو كافر بالله كاره لقضائه.
فنقول لمن تمرد على الله فكفر به، أو تمرَّد على أحكامه فعصاها: ما لكم لا تتمردون على الله فيما يقضيه عليكم من أمور اضطرارية؟ هذا دليل على أنكم اتخذتم الاختيار في غير محلّه؛ لأن الذي يختار ينبغي أنْ يأخذ الاختيار في كل شيء، لكن أنْ تختار في شيء ولا تختار في شيء آخر، فهذا لا يجوز.
{وَهُوَ الَّذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى في السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ (27)}.
كثيرًا ما يُحدّثنا القرآن الكريم عن هذه المسألة ويُذكّرنا بالبدء والإعادة، لماذا؟ يهتم القرآن بهذه المسألة ويؤكد عليها لأنها كانت الأساس في دعوته؛ لأنهم إنْ كانوا يؤمنون بأنهم يرجعون إلى الله لخافوا من عقابه؛ لذلك يؤكد لهم في مواضع كثيرة حتمية الإعادة وأنها حَقٌّ.
قوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُا الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} [الروم: 27] استُهلَّت الآية بقوله تعالى: {وَهُوَ} وفي آية أخرى {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ} [الروم: 11] فكأن هُوَ مدلولها الله وهو كما نعلم ضمير غيبة، والحق سبحانه غَيْب عن الأنظار، ومن عظمته سبحانه أنه غيب، فلو كان مُدْركًا مُحسًَّا ما استحق أنْ يكون إلهًا، وكيف نطمع في إدراكه سبحانه ونحن لا نستطيع أن ندرك بعض مخلوقاته؟
فالمعاني التي خلقها الله لتسوس حركة الحياة: كلمة الحق، العدل، الحق الذي يقف القضاء كله ليؤيده ويُعلنه، والعدل الذي يحكم موازين الحياة؛ ليوازن بين الشهوات وبين الحقائق، هذه المعاني لا تُدرَك بالحواس، فهل رأيتم العدل؟ هل سمعتم العدل؟ هل شممتم العدل؟. إلخ.
إذن: فالمعاني العالية لا يمكن أنْ تُدرك لأنها أرفع من الإدراك؛ لأن بها يكون الإدراك، أيكون المخلوق للحق أسمى من أنْ يُدرك، ويكون الحق سبحانه موضعًا للإدراك.
فإذا سمعت هُوَ فاعلم أنها لا تنصرف إلا إلى الإله الواحد الذي من عظمته أنه لا يُدرَك {لاَّ تُدْركُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْركُ الأبصار} [الأنعام: 103].
لذلك نقرأ في سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فترى أن {الله} لفظ الجلالة، وهو عَلَم على واجب الوجود يأتي بعد هُوَ فكأن هُوَ أدلُّ على وجود الحق سبحانه من لفظ الجلالة الله، فكأنه لا يصح حين يُطلَق ضمير الغيبة هُوَ على شيء إلا الله؛ لأنه لا شيء في الكون إلا الله.
وقوله تعالى هنا {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُا الخلق} [الروم: 27] بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرارية، مع أنه سبحانه بدأ الخَلْق بالفعل {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] فإنْ ذكرت الأولى فقد بدأ الخَلْق، وإن ذكرت الاستمرارية في الإيجاد فهو يبدأ دائمًا، وفي كل وقت ترى في خَلْق الله شيئًا جديدًا، فالخَلْق لم يأت مرة واحدة، ثم توقف، بل بدأ ثم استمر.
ونلحظ أن القرآن يذكر هذه المسألة مرة بالماضي {بَدَأ} ومرة بالمضارع {يَبْدأ} لأن الخالق سبحانه بدأ الخلق فعلًا بخَلْق آدم عليه السلام الإنسان الأول: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان من طينٍ} [السجدة: 7] ولا يزال سبحانه بقيوميته خالقًا، يبدأ كل يوم وكل لحظة خَلْقًا جديدًا نشاهده في الإنسان، وفي الحيوان، وفي النبات. إلخ.
وبالخَلْق المتجدّد للإنسان، حيث يُولَد كل لحظة مولود جديد نردُّ على الذين يقولون بتناسخ الأرواح- يعني: أن الروح تخرج من جسد فتحلُّ في جسد آخر- وهذا يعني أن تكون المواليد على قدر الوَفيَات، ويعني أن يظل العالم على تعداد واحد دون زيادة، ونحن نرى الآن مدى الكثافة السكانية التي يشكو العالم منها الآن، وهذه تكفي لهدم هذه النظرية.
والحق سبحانه يُحذّرنا أن نأخذ قصة بَدْء الخلق من غير الخالق سبحانه، فمن الناس مضلون سيضلونكم في هذه المسألة، فلا تُصغْون إليهم؛ لأن الله يقول: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسهمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخذَ المضلين عَضُدًا} [الكهف: 51].
وقد رأينا من هؤلاء المضلين مَنْ يقول بأن الإنسان أصله قرد متطور إلى إنسان، والردُّ على هذه الضلالات يسير، فإذا كان القرد تطور إلى إنسان، فلماذا لم تتطور باقي القرود؟ ولماذا لم يتطور الإنسان منذ أنْ خُلق آدم وحتى الآن إلى شيء آخر؟ وكيف نصدق هذه الضلالات، وربنا سبحانه يقول: {وَمن كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْن لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49].
ويقول سبحانه: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا ممَّا تُنبتُ الأرض وَمنْ أَنفُسهمْ وَممَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36] فإياك أنْ تقول: إن شيئًا تطور عن شيء، فكل جنس قائم بذاته منذ خلقه الله.
إذن: احذروا مثل هذه الأقوال، ولا تأخذوا قصة بَدْء الخَلْق إلا من الله وحده.
كلمة {يُعيدُهُ} [الروم: 27] أي: إلى الخَلْق فهي بمعنى يخلقه، فالمعنى: يبدأ الخلق ثم يميته ثم يُعيده، البعض يظن أن يعيده يعني يبعثه في الآخرة، لكن الله تعالى يقول: {الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ ثُمَّ إلَيْه تُرْجَعُونَ} [الروم: 11] فيعيده غير تُرجعون، ترجعون أي: في القيامة.
وقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} [الروم: 27] أي: على حَسْب فهمكم أنتم للأشياء، وإلا فالله تعالى لا يقال في حقه هذا سهل وهذا أسهل، ولا هيّن وأهون؛ لأنه سبحانه لا يزاول الأشياء كما نزاولها نحن، ولا يعالج الأفعال، إنما يفعل سبحانه بكُنْ فيكون.
ومن ذلك قوله تعالى لزكريا عليه السلام لما تعجب أن يكون له ولد، وقد بلغ من الكبَر عتيًا وامرأته عاقر: {هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ} [مريم: 9] ذلك لأن طلاقَة القدرة لا تقف عند أسبابكم. وكذلك قال لمريم: {كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ} [مريم: 21].
فالأمر عجيب في نظر مريم، أن تأتي بولد بدون زوج؛ لكنه ليس عجيبًا في قدرة الله، فإنْ كانت العادة أنْ يأتي الولد بالأسباب فالله سبحانه هو خالق الأسباب، يفعل ما يشاء بدونها.
وسبق أن تحدثنا عن طلاقة قدرة الله في قصة إبراهيم عليه السلام حينما أراد القوم أنْ يحرقوه، فلو كانت المسألة مسألة نجاة إبراهيم من النار ما مكّنهم الله من الإمساك به، أو: حتى إنْ أمسكوه وألقَوْه في النار كان بالإمكان أنْ يُنزل الله على النار مطرًا فتنطفيء.
لكن الحق سبحانه يريد أن يسدَّ على الكافرين منافذ الحجَاج، ويبطل كفرهم، فهاهم قد ظفروا به وألقَوْه في قَعْر النار، وهي على حال الاشتعال والإحراق، لكنهم غفلوا عن شيء هام، هو أن الله تعالى ربُّ هذه النار وخالقها وخالق قوة الإحراق فيها، وهو وحده القادر على أنْ يسلبها هذه الخاصية، فيلقى فيها نبيه إبراهيم دون أن يحترق.
وهنا تكمن العظمة وتظهر الحجة {قُلْنَا يانار كُوني بَرْدًا وسلاما على إبْرَاهيمَ} [الأنبياء: 69].
ونلحظ فصاحة الأداء في {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُا الخلق} [الروم: 27] فهو أسلوب قَصْر، حيث قدّم المتعلق الذي حقُّه أن يكون مؤخرًا، كما في {إيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] فقدّم المفعول، ومن حق المفعول أن يُؤخّر عن الفعل والفاعل، وقدَّمه هنا، لنقصر العبادة على الله وحده دون سواه، وحتى لا نعطف على الله تعالى شيئًا، فلو قلت نعبدك لجاز أن تقول: ونعبد غيرك، كذلك هنا {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُا الخلق} [الروم: 27] أفادت تخصيص الخلق لله وحده دون أن نعطف عليه أحدًا.
وقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} [الروم: 27] الحقيقة ليس في الأمور بالنسبة لله تعالى هَيّن وأهون، إنما في عُرْفنا نحن، وليُقرّب لنا الحق سبحانه فَهْم المسائل، وإلا فالحق سبحانه لا يعالج الأمور ولا يزاولها كما نعالجها نحن، وإنما يفعل سبحانه بكُنْ فيكون.
لذلك لما نتأمل قَوْل مريم عليها السلام لما بشَّرتها الملائكة بالمسيح قالت: {رَبّ أنى يَكُونُ لي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْني بَشَرٌ} [آل عمران: 47] فكيف فهمتْ مريم هذه المسألة، ومَنْ أخبرها بأن الولد سيكون دون أن يمسَّها بشر؟
لقد فهمت مريم هذا من قول الملائكة {إنَّ الله يُبَشّرُك بكَلمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح عيسَى ابن مَرْيَمَ} [آل عمران: 45]. فلو كان له أبٌ لذكرته الملائكة، وما داموا قد نسبوه إلى أمه فلا أب له.
ثم يقول سبحانه: {وَلَهُ المثل الأعلى في السماوات والأرض} [الروم: 27] له المثل الأعلى يعني: أن الله تعالى لا مثيل له، فإنْ شابهه سبحانه شيء من خَلْقه في صفة من الصفات فخُذْها في إطار التقريب للمعنى، وفي إطار {لَيْسَ كَمثْله شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلك وجود لله تعالى وجود، لكن وجودك ليس كوجود الله، أنت حَيٌّ والله حَيٌّ، لكن حياتك ليست كحياته عز وجل. وهكذا.
وقوله: {المثل الأعلى} [الروم: 27] نقول: عالٍ وأعلى، فهي أفعل تفضيل بمعنى: الذي لا يُشابه ولا يُضاهي؛ لذلك يقول سبحانه: {لَيْسَ كَمثْله شَيْءٌ} [الشورى: 1] فينفي أن يوجد شبيه لمثل الله لا شبيه لله؛ لأن الكاف هنا بمعنى: مثل. فكأنك قلت: ليس مثْل مثْله شيء.
وطريقة العرب في الأداء في مسألة المشابهة يقولون: زيد مثل الأسد في الشجاعة، فأنت تريد أن تعطيني صورة لشجاعة زيد، فذكرت أوضح شيء لهذه الصفة وهو الأسد، فهو مُشبَّه به.
إذن: فالأسد أقوى من زيد في هذه الصفة، وإلا لما جعلتَ المشبّه به توضيحًا لما لا تعلم.
فحين تقول: {لَيْسَ كَمثْله شَيْءٌ} [الشورى: 1] تعني: إنْ وُجد مثْل لله لا يوجد مثل لهذا المثْل، فنفيتَ المثل من باب أَوْلَى؛ لأن الأضعف وهو المثل المشبه أضعف من المشبه به، فإذا كان المثل أضعف من الممثَّل ولا يوجد مثل للأضعف، فكيف يوجد مثل للأقوى؟
وانظر إلى جمال الحق سبحانه حين يُجلّي للخَلْق مثَلًا في دنياهم، ويجعل من ذاته- سبحانه وتعالى- المماثلة، يقول تعالى ليُقرّب لأفهامنا كيفية نوره: {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُوره كَمشْكَاةٍ فيهَا مصْبَاحٌ المصباح في زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ يُوقَدُ من شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقيَّةٍ وَلاَ غَرْبيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ يَهْدي الله لنُوره مَن يَشَاءُ} [النور: 35].
فالله- سبحانه وتعالى- يضرب المثَل لنوره بالمشكاة، السطحيون يظنون أن المشكاة هي المصباح، لكن الله يقول {كَمشْكَاةٍ فيهَا مصْبَاحٌ} [النور: 35] والمشكاة تجويف في الحائط، مثل الطاقة غير نافذة، فإنْ كانت نافذة نسميها شباكًا، وكانوا في الماضي يضعون المصباح في هذه الفجوة ليضيء الحجرة، والفجوة هذه أو المشكاة تجمع الضوء وتُقوّيه؛ لذلك يكون الضوء فيها أقوى من ضوء الحجرة، أو: أن المصباح يستوعب المشكاة أكثر من استيعابه للحجرة كلها.
وبتأمل هذا المعنى نرى أن الحق سبحانه لا يضرب لنا مثَلًا لنوره إنما لتنويره، فتنوير الله تعالى مثْل المشكاة التي فيها المصباح، والمصباح يدلُّ على الرقي في وسائل الإضاءة، فدونه مثلًا الشعلة، وهو فتيل يُوقَد في الهواء ويكون له دخان أسود، أما المصباح فله زجاجة تحجز عنه الهواء إلا بقدر ما يكفي لاحتراق الفتيل، فيأتي الضوء منه صافيًا.
ثم هو فضلًا عن ذلك في زجاجة ليست عادية، إنما {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ} [النور: 35] أي: مثل الدرة التي تضيء بذاتها، هذا المصباح يُوقَد من شجرة زيتونة معتدلة المزاج {لاَّ شَرْقيَّةٍ وَلاَ غَرْبيَّةٍ} [النور: 35] فتصوُّر هذا المصباح في مكان ضيق لا في الحجرة كلها، إنما في المشكاة كيف يكون ضوؤه؟
كذلك تنوير الله- سبحانه وتعالى- للسماوات والأرض على سعتهما، فنوره تعالى يستوعبهما، لا يترك منهما مكانًا مظلمًا كالطاقة بالنسبة لهذا المصباح الذي وصفنا.
ولهذا المثل قصة شهيرة في الأدب العربي، فقد فطن إليها أبو تمام في مدحه أحد الخلفاء، وحين أراد أنْ يجمع له مَلَكات العرب ومواهبهم من الجود والشجاعة والحلْم والذكاء، قال مادحًا:
إقْدَامُ عَمْروٍ في سَمَاحَة حَاتمٍ ** وفي حلْم أحْنفَ في ذَكاء إيَاس

وقد اشتهر عمرو بن معدي كرب بالشجاعة والإقدام، واشتهر حاتم الطائي بالكرم، وأحنف بن قيس بالحلم حتى قيل أحلم العرب فلا يُغضبه شيء أبدًا، ولا يُخرجه عن حلْمه، حتى أن جماعة قصدوا أنْ يخرجوه عن حلْمه، فتكون سابقة لهم فتبعوه في الطريق، وأخذوا يهزءُون به وهو يضحك، حتى قارب من الحي، فنظر إلى هؤلاء الفتية وقال: أيها الفتية، لقد قربنا من الحيّ، فإنْ كان في جوفكم استهزاء بي فافرغوا منه؛ لأنهم لو ظفروا بكم لقتلوكم.
أما إياس بن معاوية فكان مَضْرب المثَل في الذكاء، وهكذا جمع أبو تمام لممدوحه خلاصة ما تعرفه العرب من مواهب. وهنا قام له واحد من خصومه وقال: أتُشبّه الخليفة بأجلاف العرب، فمَنْ يكون هؤلاء إذا ما قُورنوا بأمير المؤمنين؟
وهذا الاعتراض مأخوذ من قول الشاعر:
وشَبَّهه المدَّاحُ في البَأْس والنَّدَى ** بمَنْ لوْ رآهُ كانَ أصْغر خَادم

فَفي جيشه خَمسُونَ ألفًا كَعنترٍ ** وأَمْضَى وفي خُدَّامه ألفُ حاتم

فلما قيل لأبي تمام: كيف تشبه الخليفة بأجلاف العرب أحجم هنيهة ثم رفع رأسه، وقال:
لاَ تُنكروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ ** مثَلًا شَرُودًا في النَّدَى والبَاس

فالله قد ضَربَ الأقلَّ لنُوره ** مَثَلًا من المشْكَاة والنّبراس

ومع دقَّة الاستشهاد وطرافته إلا أن خصومه اتهموه بأن ذلك ليس ارتجالًا لوقته، إنما هو مُعدٌّ لهذا الموقف سلفًا، وبعض الدارسين للأدب يقول بذلك وقاله لنا مدرس الأدب، لكن يُروَى أنهم لما أخذوا الورقة التي مع أبي تمام لم يجدوا فيها هذه الأبيات، ثم على فرض أن الرجل أعدَّها قبل هذا الموقف فإنها تُحسَب له لا عليه، وتضيف إليه ذكاءً آخر؛ لأنه استدرك على ما يمكن أنْ يُقال فاستعد له.
وكما أن الحق سبحانه وتعالى له المثَل الأعلى في الأرض، فلا مثيلَ له، كذلك له المثل الأعلى في السماء فلا مثيلَ له، مع أن ما في السماء غيب، وهم الملائكة من صفاتهم كذا وكذا، فلله المثَل الأعلى في السماوات.
ثم يقول سبحانه: {وَهُوَ العزيز الحكيم} [الروم: 27] أي: أنه سبحانه وتعالى بذاته عزيز لا يُغلب، ومع عزته سبحانه حكيم لا يظلم. اهـ.

.قال ابن الجوزي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {أنْ خَلَق لكم من أنفُسكم أزواجًا} فيه قولان:
أحدهما: أنه يعني بذلك آدم، خلق حوَّاء من ضلعه، وهو معنى قول قتادة.
والثاني: أن المعنى: جعل لكم آدميَّات مثلكم، ولم يجعلهنَّ من غير جنسكم، قاله الكلبي.
قوله تعالى: {لتسكنُوا إليها} أي: لتأووا إلى الأزواج {وجعل بينكم مودَّةً ورحمة} وذلك أن الزوجين يتوادَّان ويتراحمان من غير رَحم بينهما {إنَّ في ذلك} الذي ذكره من صنعه {لآياتٍ لقوم يتفكَّرون} في قدرة الله وعظَمته.
قوله تعالى: {واختلافُ ألسنتكم} يعني اللغات من العربية والعجمية وغير ذلك {وألوانكم} لأنَّ الخلق بين أسود وأبيض وأحمر، وهم ولد رجل واحد وامرأة واحدة.